الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.فإن قيل قد رخص في كل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة ابن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم، فالجواب: أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم وقد خالفهم فيه غيرهم وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله وقوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} يدخل فيه الملك والنبي كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك وبين الصنم والنصب فلزمهم القول بالمنع وأما استدلالهم بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فلا دليل فيه لأن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ليس بمخصص لقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافًا لأبي ثور محتجًا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} أو ذكر كل واحد منهما على حدة كحديث الترمذي وغيره «أيّما إهاب دبغ فقد طهر» مع حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: «هلا أخذتم إهابها» الحديث فذكر الصلاة الوسطى في الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة لأن ذكر البعض لا يخصص العام وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضًا على الصحيح كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} فإن الضمير راجع إلى قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن وإلا هذا أشار في مراقي السعود مبينًا معه أيضًا أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي ر يخصص مرويه على الصحيح فيها أيضًا بقوله:
وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور وتقدم رد مذهبه ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
ترتيبه الحكم عليه واتضح.ومحل الشاهد منه قوله: «استفد ترتيبه الحكم عليه» وقوله: «وذكره في الحكم وصفا أن لم يكن علته لم يفد» ومما يوضح ما ذكرنا أن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} موصول وصلته جملة فعلية وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة أل بمثابة الفعل مع الموصول ولذا عمل الوصف المقترن بأل الموصولة في الماضي لأنه بمنزلة الفعل كما أشار له في الخلاصة بقوله: فإذا حققت ذلك علمت أن الذين أوتوا الكتاب بمثابة ما لو قلت وطعام المؤتين الكتاب بصيغة اسم المفعول ولم يقل أحد أن مفهوم اسم المفعول مفهوم لقب لاشتماله على أمر هو المصدر يصلح أن يكون المتصف به مقصودا للمتكلم دون غيره كما ذكروا في مفهوم الصفة فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم وهى العلة في إباحة طعامهم ونكاح نساءهم فادعاء أنها مفهوم لقب سهو ظاهر وظهر أن التحقيق أن المفهوم في قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مفهوم علة ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة فالصفة أعم من العلة وإيضاحه كما بينه القرافي أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة كوجوب الزكاة في السائمة فإن علته ليست السوم فقط ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش لأنها سائمة ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى وهي مع السوم أتم منها مع العلف وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هو الصواب وقد تقرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه وممن حكى الإجماع عليه الآمدي السبكي في شرح المختصر ودليل جوازاه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ومثاله تخصيص حديث «ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» أي يحل العرض بقوله مطلني والعقوبة بالحبس فإنه مخصص بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} لأن فحواه تحريم إذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد وأما تخصيصه مفهوم المخالفة ففيه خلاف والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير تغمده الله برحمته الواسعة وهو التخصيص به والدليل عليه ما قدمنا من أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما وقيل لا يجوز التخصيص به ونقله الباجي عن أكثر المالكية وحجة هذا القول أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم ويجاب بأن المقدم عليه منطوق خاص لا ما هو من أفراد العام فالمفهوم مقدم عليه لان إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما واعتمد التخصيص به صاحب مراقي السعود في قوله في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة: ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة» الذي يشمل عمومه السائمة لا زكاة فيها فيخصص بذلك عموم في أربعين شاة شاة والعلم عند الله تعالى.
|